مسيرة التصوير الطبي من الاشعة السينية إلى التقانة النانوية
شاعرة القرن التاسع عشر الامريكية إيميلي ديكنسون كانت منعزلة تماما لدرجة انها لم تكن تسمح حتى للأطباء بالكشف عنها الا على مسافة بضعة أمتار. لو كانت على قيد الحياة وقت اكتشاف اشعة اكس لكانت بالتأكيد سوف تستفيد من التقدم الهائل الذي احدثته تلك الاشعة في مجال التصوير الطبي الذي يلائم طبيعة عزلتها والكشف عن سبب مرضها الذي قضى على حياتها في عمر ٥٥ عام.
قبل القرن العشرين اعتمد الاطباء على حواسهم الخمسة في تشخيص المريض ومعرفة العلة التي يشكوا منها وهذا سبب الكثير من المشاكل للمريض في تعرضه للخضوع إلى عمليات جراحية لأجل تشخيص المرض.
تغير الطب تماما بعد اكتشاف اشعة اكس وهي اشعة اكتشفها العالم ويليام رونتجن في العام 1895 بطريق الصدفة. لقد اعتبر اكتشاف هذه الاشعة من أعظم واهم انجاز طبي في تاريخ البشرية. انه بالفعل أعظم اختراع عبر العصور فقد تفوق على سفينة الفضاء ابولو وعلى اكتشاف البنسلين والشريط الوراثي DNA والمحركات الحرارية في استفتاء اشرف عليه متحف العلوم في لندن والذي شارك فيه اكثر من ٥٠ الف مشارك لاختيار اعظم اختراع عبر العصور.
لاحظ رونتجن ان بلورات فسفورية قريبة من مصدر فرق جهد عالي لأنبوبة اشعة المهبط (هي نفس الانبوبة المستخدمة في أجهزة التلفزيون التقليدية) تعطي وميض وتوهج حتى لو كانت مغطاة بورق سميك وداكن او حتى بصفائح معدنية رقيقة. لذلك فكر رونتجن بان هناك اشعة خارقة قد تولدت من انبوبة اشعة المهبط ولها القدرة على اختراق الورق والوصول إلى البلورة واثارتها. لم يكن يدرك رونتجن ما هي هذه الاشعة وما هو نوعها فأطلق عليها اسم اكس اي المجهولة لتصبح بعد ذلك اشعة اكس x-ray. لم يكتشف رونتجن اشعة اكس فحسب بل استخداماتها ايضا ففي العام 1898 لأول مرة قام بتصوير يد زوجته بعد ان جرب على نفسه قبلها وذلك بوضع يدها بين مصدر اشعة اكس وفيلم حساس وظهرت صورة عظام يدها وخاتم زواجهما. بهذا الاكتشاف النوعي استحق رونتجن جائزة نوبل في الفيزياء في العام 1901 لاكتشافه اشعة اكس والتي غيرت عالم الطب وفتحت المجال امام تطبيقات طبية هائلة.
اصبحت بعد ذلك اجهزة اشعة اكس من الادوات الطبية الفعالة، وبالأخص اثناء الحرب العالمية الاولى للتعامل مع انواع مختلفة من الاصابات في صفوف الجنود. لقد وجد العلماء والاطباء انه من الضروري علاج المصابين واسعافهم خلال ساعة من الاصابة، ولهذا السبب تم نقل اجهزة اشعة اكس إلى مكان الجنود المصابين واستخدمها الاطباء في معرفة اين اصيب الجنود بالتحديد واخراج الرصاص من اجسامهم واي شظايا اخرى، مما ساهم كثيرا في اسعافهم قبل فوات الاوان.
مر التصوير بأشعة اكس بمراحل متعددة من التطور مثله مثل اي تقنية مبتكرة، الا ان فكرة عمله لم تتغير كثيرا عن بدايات استخدام اشعة اكس. وأطلق على تقنية التصوير بأشعة اكس مصطلح التصوير الاشعاعي radiography والعامل في هذا المجال يعرف باسم اختصاصي الاشعة radiologist. وبدأ الاطباء في استخدام اشعة اكس بدون الانتباه إلى مخاطرها وأثرها عليهم ففي بدايات التشخيص استخدم الاطباء شاشات فلوريسنت بدلا من الافلام المعروفة الان ووضعت على صدر المريض الذي تسلط عليه اشعة اكس من ظهره لتنفذ من صدره وتصل إلى شاشة فلوريسنت يتمكن بواسطتها الطبيب من رؤية واضحة لصدر المريض، وهذا عرضه بدون شك إلى جرعة كبيرة من اشعة اكس مما اصاب الكثير من الاطباء في الماضي بأمراض سرطانية خطيرة اودت بحياتهم.
التصوير البانورامي والماموغرافي
في ايامنا هذه اصبحت اجهزة اشعة اكس محاطة بكافة وسائل الحماية والامان لضمان سلامة العاملين على تشغيلها واصبحت تعطي صورا أكثر جودة وبدرجة حساسية ودقة تحليلية عالية. كما تنوعت وسائل استخدام التصوير الاشعاعي فمنها ما يعرف باسم التصوير البانورامي Panoramic radiograph والذي يستخدم في طب الاسنان لتصوير الاسنان. وهناك تصوير الماموجرافي mammography والمستخدم في تصوير الثدي للكشف المبكر عن السرطان وكل هذه التقنيات تعمل بنفس الفكرة الا ان الاجهزة صممت لتخدم الهدف المراد منها. ومع التقدم في مجال الالكترونيات والكمبيوتر أصبح التصوير رقميا ولا داعي الان لاستخدام الافلام. والاعتماد على الكمبيوتر في التصوير اضاف الكثير من المزايا في التعامل مع الصور بعد التقاطها مثل تحسين جودة الصور وزيادة درجة وضوحها وارسالها إلى الاطباء عبر الانترنت للحصول على أكثر من رأي للتشخيص حول الامور المعقدة.
التصوير التلفزيوني الفلوروسكوبي
لم يقتصر الامر على التقاط الصور الثابتة لجسم الانسان فحسب، بل تطورت تقنية التصوير الفيديو باستخدام اشعة اكس والتي تعرف باسم الفلوروسكوبي fluoroscopy ليحصل فيها الطبيب على صورة مرئية ديناميكية متحركة وفيها يتم تسليط حزمة مستمرة من اشعة اكس على جسم المريض بعد حقنه بمادة ذات كثافة عالية. قد يخطر على بالنا ان هذا قد يعرض المريض لجرعة كبيرة من اشعة اكس التي قد تسبب له الكثير من الاضرار. الا ان استخدام انبوبة تعزيز شدة الصورة image intensified tube والتي استخدمت في المراصد الفلكية في الاساس من المساهمة في تقليل شدة اشعة اكس بدرجة كبيرة للحصول على تصوير فيديو لما يحدث داخل جسم المريض وخصوصا الاوعية والشرايين بجرعة اشعاعية امنة.
الامواج فوق الصوتية
لم يعتمد التصوير الطبي على اشعة اكس فقط، فقد وجد طبيب الاعصاب النمساوي كارل ثيودو في العام 1942 امكانية استخدام الامواج فوق الصوتية في المجال الطبي وذلك بعد ان تطورت استخداماتها العسكرية من خلال اجهزة الرادار والسونار في الحرب العالمية الثانية. وبنفس الفكرة التي عملت بها اجهزة السونار لرصد الغواصات في اعماق المحيطات. استخدمت ايضا في تصوير جسم الانسان. ومرت اجهزة التصوير فوق الصوتية والتي تعرف باسم الالتراساوند ultrasound بالكثير من التطورات لتكون مناسبة للاستخدامات الطبية حتى تمكن العلماء من الحصول على صورة ثلاثية الابعاد لجنين في العام 1986.
تستخدم اجهزة الالتراساوند الامواج فوق الصوتية والتي يزيد ترددها عن 20 كيلوهيرتز والتي تصدر عن مجس خاص وتنفذ الامواج فوق الصوتية في جسم الانسان وتصطدم في الحواجز والفواصل بين مكونات الجسم المختلفة. ينعكس جزء من الامواج وتعود إلى المجس وينفذ الجزء المتبقي إلى طبقات أعمق وتنعكس مجددا وترتد إلى المجس. يقوم المجس بالاستعانة بالكمبيوتر بحساب المسافة بين المجس والطبقة داخل الجسم التي انعكست عنها الامواج. تظهر على شاشة الكمبيوتر العلاقة بين المسافة وشدة الاشعة المنعكسة.
تعد اجهزة الالتراساوند من الاجهزة الاكثر امنا لأنها لا تتطلب استخدام اي مواد اضافية تدخل إلى جسم الانسان ولا ينتج عنها اي اضرار تذكر سوى انها ترفع درجة حرارة السوائل التي تتعرض للأمواج الفوق صوتية، وهنا يأتي دور الطبيب المستخدم للجهاز ومهارته في تجنب الوصول إلى هذه المرحلة. وبهذا فان اجهزة الالتراساوند مناسبة وامنة لتصوير النساء الحوامل، والاجنة والاطفال.
التصوير المقطعي
مع التقدم الهائل في مجال الكمبيوتر تطورت تقنية التصوير بأشعة اكس لتدخل في العصر الرقمي بتقنية التصوير المقطعي computed tomography والذي يعرف بالـ CT والذي يعود الفضل لاكتشافه العالم الانجليزي جودفري هاونسفيلد في العام 1971، وفيه يتم اعتبار جسم الانسان او المنطقة المراد تصويرها عبارة عن مقاطع او شرائح عمودية على محوره وكل مقطع يدور حوله جهاز اشعة اكس دورة كاملة ويقوم بتصويره بشكل منفصل وتخزن المعلومات في جهاز الكمبيوتر الذي يقوم برنامج معقد بإعادة تجميع تلك البيانات وتحويلها إلى صور مرئية تظهر تفاصيل الانسجة المختلفة للجسم حسب كمية نفاذ اشعة اكس منها، وهذا سمح للطبيب ان يشخص ويدرس كل جزء من اجزاء الجسم كما لو كان عبارة عن شرائح رقيقة. ليحدد بدقة ان كان هناك كسر لم تتمكن اجهزة التصوير التقليدية من رصده او تحديد إذا ما كان هناك خلايا سرطانية.
الرنين المغناطيسي
لم يتوقف العلم عند هذا الحد فبعد استخدام اشعة اكس والامواج فوق الصوتية في التشخيص جاء جهاز يعتمد على المجال المغناطيسي وامواج الراديو في العام 1977 وأطلق عليه اسم جهاز الرنين المغناطيسي magnetic resonance imaging والذي يختصر بالأحرف MRI، والذي يعد جهازا مميزا لكونه لا يتطلب استخدام مواد صبغية تدخل في جسم الانسان لتعزيز التباين فكان له السبق في تصوير الانسجة الرقيقة مثل الاوعية والشعيرات الدموية والدماغ والعظام والمفاصل بدرجة عالية من الدقة. كما تساعد هذه التقنية من التصوير على تعميق المعلومات التي يتم الحصول عليها بالتصوير المقطعي CT، ومن هنا تأتي نجاعتها الكبيرة في تمييز الامراض. يمكن بواسطتها تمييز المركبات الكيميائية للأنسجة المختلفة والمركبات الخبيثة، كما يمكن تمييز التغييرات الوظيفية كالاستهلاك الكبير للأكسجين على الرغم من تفوقها الكبير في مجال التصوير الا ان اجهزتها مكلفة جدا ومعقدة وتتطلب فترة مسح طويلة نسبيا.
الطب النووي
انضمت فئة جديدة من الاشعة تعرف باسم اشعة جاما إلى الاشعة المستخدمة في التشخيص الطبي فبعد ثلاثة اعوام من اكتشاف رونتجين اشعة اكس اي في العام 1898 اكتشف العالم بيكريل Becquerel النشاط الاشعاعي الناتج عن بعض المواد الطبيعية ولكن لم يكن بالامكان استخادمها في المجال الطبي لطول فترة عمرها. وفي العام 1930 تمكن العالم ايرنيست لورانس Ernest Lawrence من اختراع جهاز السيكلترون لتصنيع مواد مشعة بأعمار نصف صغيرة لا تتعدى بضعة ساعات فاتحا بذلك الباب لنشأة الطب النووي وحصل ايرنيست على جائزة نوبل في العام 1939.
تبرز اهمية اشعة جاما في الطب النووي إلى ان هناك اعضاء معينة في جسم الانسان مثل القلب والدماغ والكليتين لا يمكن ان يصل لها الضوء او ان تنعكس عنها اشعة اكس. لكن باستخدام المواد المشعة التي تحقن داخل جسم المريض لتصل إلى العضو المراد تصويره يمكن ان يلتقط الكاشف نشاط هذا المواد داخل جسم الانسان والحصول على صورة تشخيصية وهناك اربعة تقنيات تعتمد على المواد المشعة تعرف باسم اشعاع البوزيترون الطبقي PET والاشعاع الفوتوني المقطعي SPEC وتصوير جهاز الدورة الدموية واجهزة مسح العظام. وتعتبر هذه التقنيات الطريقة الامثل للحصول على صور للأورام السرطانية وكشف المناطق الضعيفة في الاوردة الدموية وكذلك كشف العجز في تدفق الدم في اغشية جسم الانسان وكشف الخلل الذي قد يصيب الرئتين. تتم تقنية التصوير النووي بحقن المريض بالمواد المشعة المجهزة له خصيصا باستخدام جهاز السيكلترون ويخضع المريض للتصوير باستخدام كاميرا خاصة تعرف باسم كاميرا جاما لانها ترصد اشعة جاما التي تنطلق من المواد المشعة التي حقن بها المريض.
مناظير الاندوسكوب
كل الاجهزة السابقة تقوم بتصوير اعضاء جسم الانسان من الخارج وهناك قسم اخر للتشخيص يعتمد على ادخال مناظير تسمى الاندوسكوب endoscope يتكون من انبوبة مرنة بها حزمة من الالياف الضوئية يتم ادخالها إلى جسم الانسان والنظر بواسطته إلى الاعضاء الداخلية التي يصعب الوصول لها بالأشعة مثل المريء والمعدة والجزء العلوي من الامعاء والجيوب الانفية والقولون والمثانة والمفاصل، وتقوم فكرة عملها على ارسال الضوء في الالياف الضوئية وعادة ما يكون شعاع ليزر ليضيء المكان المراد تصويره وفي الطرف الخارجي للاندوسكوب يكون متصلا بكاميرا تظهر ما يحدث داخل الجسم على شاشة تلفزيونية. وقد انتشر استخدام المناظير في إجراء الجراحات، وهو آخذ في الازدياد. فمثلاً يمكن استئصال المرارة باستعمال المنظار وكذلك تفتيت الحصى.
التصوير الثلاثي الابعاد
ومع تطور اجهزة ليزر اشعة اكس التي تعطي اشعة اكس بخصائص الليزر الفريدة يتوقع العلماء ان تستخدم في مجال الطب لأخذ صور ثلاثية الابعاد لجسم الانسان من الداخل وتعرف تقنية التصوير ثلاثي الابعاد باسم الهولوجرافي holography ليتمكن الطبيب من النظر إلى صور مجسم لداخل جسم الانسان وفحصه بدقة غير مسبوقة.
وفي الختام ومع هذا التطور الكبير في مجال اجهزة التصوير الطبي الا ان المزيد من الابحاث تجري على زيادة دقة التصوير الطبي وزيادة سرعته، وتصغير حجم الاجهزة المستخدمة مع الحفاظ على كفاءتها وايجاد طرق عرض ثلاثية الابعاد والتقليل من الاثار الضارة. هذا بالإضافة إلى سعي العلماء إلى ربط اجهزة التصوير الطبي مع برامج كمبيوتر تتمكن من التشخيص او ان تساعد الطبيب في هذا المجال. وقد يأتي اليوم الذي نشهد فيه مع تطور تقنيات النانوتكنولوجي من ابتكار كاميرات صغيرة تتحرك في داخل الاوعية الدموية او اي جزء من جسم الانسان وتعطي تفاصيل واضحة وتقوم ايضا بإصلاح اي خلل حسب توجيهات الطبيب.
نشر هذا المقال على مجلة التقدم العلمي الكويتية في عددها 94 لتحميل العدد اضغط هنا