الاشعة الكونية Cosmic Rays
الاشعة الكونية cosmic rays هي عبارة عن اشعاع يمتلك طاقة هائلة، وينشأ في الاساس خارج النظام الشمسي. يمكن للأشعة الكونية ان تولد زخات من الجسيمات الثانوية والتي لها القدرة على ان تخترق الغلاف الجوي وتصطدم به وقد تصل إلى سطح الأرض. تتكون الاشعة الكونية بشكل اساسي من بوتونات ذات طاقة عالية وانوية ذرية مجهولة الأصل. ولقد فسرت البيانات التي تم الحصول عليها من تلسكوب فيرمي الفضائي (2013) كدليل على ان جزء كبير من الاشعة الكونية الاساسية نشأ من نجوم مستعرة “سوبرنوفا” هائلة، الا انها لا تعتبر المصدر الوحيد للأشعة الكونية، فأنوية المجرات النشطة تولد ايضا اشعة كونية.
نبذة تاريخية
بعد اكتشاف النشاط الاشعاعي بواسطة العالم هينري بيكريل Henri Becquerel والعالمة ماري كوري Marie Curie في العام 1896، أصبح يعتقد بشكل عام ان كهرباء الغلاف الجوي وتأين الهواء يحدث بسبب الاشعاع الناتج عن العناصر المشعة في الارض او الغازات المشعة في الجو او من نظائر غاز الرادون الذي ينتج عنهما. لقد اثبتت قياسات معدل التأين عند ارتفاعات متزايدة عن الارض خلال عقد من الزمن من 1900 إلى 1910 بوجود تناقص يمكن ان نفسره على انه حدث بسبب امتصاص الهواء للاشعاع المؤين.
الاكتشاف
طور العالم ثيودور وولف Theodor Wulf في العام 1909 مقياس للشحنة الكهربية يدعى الكتروميتر وهو عبارة عن اداة لقياس معدل انتاج الايونات داخل وعاء نصف كروي محكم الاغلاق، واستخدمه ليثبت ان هناك مستويات عالية من الاشعاع عند قمة برج ايفل بالمقارنة مع مستويات الاشعاع عند قاعدته. الا ان بحثه الذي نشره في مجلة Physikalische Zeitschrift لم يكن مقبولا على نطاق واسع. في العام 1911 لاحظ العالم دومينيكو باتشيني Domenico Pacini حدوث تغيرات في نفس اللحظة لمعدل التأين فوق بحيرة وعلى عمق 3 أمتار من السطح. استنتج باتشيني من تناقص النشاط الاشعاعي تحت الماء بان جزء محدد من التأين يجب ان يكون من مصادر اخرى غير النشاط الاشعاعي على الكرة الارضية.
ومن ثم في العام 1912 نقل العالم فيكتور هيس ثلاثة اجهزة قياس الشحنة الكهربية التي ابتكرها العالم وولف الا انها تعمل بدقة اعلى ووضعها على ارتفاع 5300 متر في منطاد يطير بحرية. لقد وجد ان معدل التأين يزداد بما يقارب اربعة اضعاف معدل التأين على مستوى الأرض. مع العلم ان العالم هيس استبعد تاثير الشمس على انها مصدر من مصادر الاشعاع وذلك بجعل المنطاد يصعد خلال عملية كسوف كلي تقريبا. عند حدوث الكسوف الكلي حجب القمر الكثير من اشعة الشمس المرئية، الا ان هيس لا زال يقيس تزايد في معدل التأين مع ارتفاع المنطاد لمستويات اعلى. لقد استنتج هيس من نتائج تجاربه ان اشعاع بقدرة اختراق كبيرة تأتي من فوق الغلاف الجوي. اكد العالم ورنر كولهورستر في الفترة من 1913 إلى 1914 نتائج العالم هيس من خلال قياس زيادة في معدل التأين عند ارتفاع بلغ 9 كيلومترات.
التعريف
أطلق مصطلح الاشعة الكونية cosmic rays في العشرينات من القرن العشرين بواسطة العالم روبرت مليكان Robert Millikan الذي قام بعمل قياسات للتأين بسبب الاشعة الكونية من اقماق مياه البحار إلى ارتفاعات عالية وكذلك حول العالم. اعتقد مليكان ان قياساته اثبتت بان الاشعة الكونية مكونة في الاساس من اشعة جاما اي فوتونات ذات طاقة عالية جدا. ووضع نظرية تفيد بان اشعة جاما تنتج في الفراغ الكوني كنواتج لاندماج ذرات الهيدورجين في العناصر الثقيلة، وان الالكترونات الثانوية التي نتجت في الغلاف الجوي بتشتت كمتون لاشعة جاما. الا انه بعد ذلك في العام 1927 وجد العالم كلاي Clay دليلا تم التحقق من صحته بالعديد من التجارب العملية للتغير في شدة الاشعة الكونية مع الارتفاع تفيد بان الاشعة الكونية الاساسية تحيد عن مسارها تحت تأثير المجال المغناطيسي الارضي وبالتالي فهي بالتأكيد يجب ان تكون جسيمات مشحونة، وليست فوتونات. في العام 1929 اكتشف بوث Bothe وكولهورستر Kolhörster جسيمات اشعة كونية مشحونة يمكنها ان تخترق صفيحة من الذهب سمكها 4.1 سم. مثل هذه الجسيمات المشحونة التي تمتلك طاقة عالية لا يمكن ان تنتج بواسطة فوتونات من عملية الاندماج الكوني التي افترضها العالم مليكان. تنبأ العالم بونو روسي Bruno Rossi بوجود فرق بين شدة الاشعة الكونية القادمة من الشرق وشدتها عندما تأتي من الغرب وهذا يعتمد على شحنة الجسيمات الاولية – تعرف هذه الظاهرة بظاهرة الشرق والغرب. اجريت ثلاثة تجارب مختلفة، ووجدت ان شدة الاشعة القادمة من الغرب اعلى مما يعني ان معظم الجسيمات الاولية موجبة الشحنة. خلال الاعوام من 1930 إلى 1945 أكد مجموعة من الباحثين ان الاشعة الكونية الاولية تكون في الاغلب من البروتونات، والاشعاع الثانوي الناتج في الغلاف الجوي يكون من الالكترونات والفوتونات والميونات. في العام 1948 استخدمت مستحلبات نووية لاجراء تجارب بواسطة مناطيد بالقرب من قمة الغلاف الجوي وقد بينت النتائج ان 10٪ من الجسيمات الاولية هي انوية الهيليوم (جسيمات الفا) وان 1٪ هي انوية ثقيلة لعناصر مثل الكربون والحديد والرصاص.
في العام 1937 استنتج بيير اوجيه Pierre Auger ان جسيمات الاشعة الكونية الاولية ذات الطاقة العالية تتفاعل مع انوية الهواء في طبقات الجو العليا، مما ينتج عنها سلسلة من تفاعلات ثانوية ينتج عنها سيل من الالكترونات والفوتونات تصل إلى مستوى سطح الارض.
في العام 1937 قدم هومي بهابها Homi J. Bhabha وصفا لكيفية تفاعل الاشعة الكونية من الفضاء مع الطبقات العليا للغلاف الجوي لانتاج جسيمات تم رصدها عند مستوى سطح الارض.
توزيع الطاقة
اجريت اول قياسات على الطاقة واتجاهات وصول الاشعة الكونية ذات الطاقة العالية جدا في العام 1954 في جميع انحاء العالم وطيف الطاقة للاشعة الكونية الاساسية امتد الان لما يزيد عن 1020 eV.
التوقعات المبدئية في العام 1934 والمتعلقة بمصادر الاشعة الكونية اشتملت على افتراضية قدمها بادي Baade وزويكي Zwicky الذان اقتراحا ان الاشعة الكونية تنشأ من السوبرنوفا. افتراضية العام 1948 بواسطة هوراس بابكوك Horace W. Babcock اقترحت ان النجوم المتغيرة المغناطيسية قد تكون هي المسؤولة عن الاشعة الكونية. في وقت لاحق في العام 1951 عرف سكيدو Sekido وزملاؤه سديم السرطان Crab Nebula كمصدر للاشعة الكونية. منذ ذلك الوقت ظهرت مجموعة كبيرة من المصادر المحتملة للاشعة الكونية بما فيها السوبرنوفا وانوية المجرة النشطة والنجوم النابضة وومضات اشعة جاما.
ساهمت المزيد من التجارب في تعريف مصادر الاشعة الكونية بدقة اكبر. في العام 2009 عرضت ورقة بحثية في المؤتمر الدولي للاشعة الكونية بينت ان الاشعة الكونية ذات الطاقة العالية جدا تنشأ من موقع في السماء قريب جدا من مجرة قنطورس الراديوية. ذكر في العام 2009 ان السوبرنوفا هي مصدر الاشعة الكونية.
في شهر فبراير من العام 2013 كشف تحليل بيانات بحثية من مختبر فيرمي Fermi اثناء مراقبة اضمحلال بيون طبيعي بان السوبرنوفا هي مصدر الاشعة الكونية، ومع كل انفجار ينتج ما يقارب 3×1042 إلى 3×1043 جول من الاشعة الكونية. على اي حال لا تنتج الاشعة الكونية كلها من السوبرنوفا فهناك جزء من الاشعة الكونية ينتج مصدر اخر لازال مجهولا ويتطلب معرفته المزيد من التجارب والدراسات.
تنشأ الاشعة الكونية كاشعة كونية اولية وهي تلك التي تتولد في الاساس في العديد من العمليات الفيزيائية الفلكية. تتكون الاشعة الكونية الاولية من فوتونات وجسيمات الفا (99٪) مع مقدار صغير من الانوية الثقيلة (1~٪) وجزء صغير جدا من البوزيترونات ومضاد البروتونات. تحدث الاشعة الكونية الثانوية من خلال اضمحلال الاشعة الكونية الاولية عند اصطدامها بالغلاف الجوي وتشتمل على نيوترونات وبيونات وبوزيترونات وميونات.
تنشأ الأشعة الكونية الأولية خارج النظام الشمسي وفي بعض الاحيان خارج مجرة درب التبانة. عندما تتفاعل هذه الاشعة الكونية الأولية مع الغلاف الجوي للكرة الأرضية فانها تتحول إلى جسيمات ثانوية. نسبة كتلة انوية الهيليوم إلى الهيدورجين تبلغ 28٪ وهي مشابهة تقريبا لنسبة وفرة هذين العنصرين وهي 24٪. يتكون الجزء المتبقي من انوية ثقيلة تكون في الاغلب ناتجة عن الانفجار العظيم والليثيوم الاولي والبريليوم والبرون. تظهر هذه الانوية في الاشعة الكونية بوفرة كبيرة (1~٪) أكثر من وفرتها في الغلاف الشمسي حيث تبلغ وفرتها حوالي 10–11 مثل الهيليوم. تتكون الاشعة الكونية من انوية مشحونة أثقل من الهيليوم وتعرف بايونات HZE.
سبب هذا الاختلاف في الوفرة ناتج طريقة تكون الاشعة الكونية الثانوية. تتصادم انوية الكربون والاكسجين مع المادة الكونية لتكون الليثيوم والبرليوم والبرون في عملية تعرف باسم تشظية الاشعة الكونية cosmic ray spallation. كما ان عملية التشظية مسؤولة عن وفرة ايونات السكانديوم والتيتانيوم والفانديوم والمانجنيز في الاشعة الكونية المتولدة عن تصادمات انوية الحديد والنيكل مع المادة الكونية.
الاشعة الكونية الثانوية
عندما تدخل الاشعة الكونية الغلاف الجوي للكرة الأرضية فانها تتصادم مع جزيئات من الاكسجين والهيدروجين. ينتج عن هذه التصادمات سلسلة من الجسيمات الاخف وزنا فيما يعرف باسم رزاز الاشعاع الثانوي ويسقط كالمطر، ويحتوي ايضا على اشعة اكس والميونات والبروتونات وجسيمات الفا وبيونات والكترونات ونيوترونات. تمكث كل الجسيمات الناتجة داخل حوالي درجة واحدة من مسار الجسيمات الاولية.
الجسيمات القياسية التي تنتج في مثل هذه التصادمات هي النيوترونات والميزونات المشحونة مثل البيونات والكاونات الموجبة او السالبة. بعض من هذه الجسيمات يضمحل تباعا إلى ميونات التي تتمكن من الوصول إلى الأرض.
رصد رزاز ثانوي من الجسيمات بواسطة كواشف متعددة في نفس الوقت يعد دليلا على ان كل الجسيمات اتت من هذا الحدث.
فيض الاشعة الكونية
ان فيض الاشعة الكونية القادمة عند طبقة الغلاف الجوي العليا يعتمد على الرياح الشمسية والمجال المغناطيسي للأرض وطاقة الاشعة الكونية. لكن شدة الرياح الشمسية غير ثابتة وعليه فقد لوحظ ان فيض الاشعة الكونية يرتبط مع النشاط الشمسي.
علاوة على ان المجال المغناطيسي الأرضي يعمل على انحراف الاشعة الكونية عن سطحها مما يظهر على ان الفيض يبدو كما لو انه يعتمد على خطوط الطول والعرض وزاوية السمت. تعمل خطوط المجال المغناطيسي على انحراف الاشعة الكونية في اتجاه القطبين وهذا ينتج عنه ظاهرة الشفق القطبي aurorae.
جميع تأثيرات العوامل التي ذكرت اعلاه تساهم في فيض الاشعة الكونية على سطح الأرض. لجسيمات بطاقة تبلغ 1 GeV فان معدل وصولها إلى الارض يبلغ 10,000 لكل متر مربع في الثانية. عند طاقة تبلغ 1 TeV يكون المعدل جسيم واحد لكل متر مربع في الثانية. اما عند طاقة 10 PeV يكون هناك بضعة جسيمات لكل متر مربع في السنة. عندما تصل طاقة الجسيمات إلى اكثر من 10 EeV يكون معدل الوصول حوالي جسيم واحد لكل كيلومتر مربع في السنة، وعندما تزيد طاقة الجسيمات عن 100 EeV يصبح معدل وصولها حوالي جسيم واحد لكل كيلومتر مربع في القرن.
اعتقد في الماضي ان فيض الاشعة الكونية ثابتا تقريبا في الزمن. ولكن البحوث الحديثة تقترح ان هناك تغير بمقدار 1.5 إلى 2 في فيض الاشعة الكونية في الاربعين ألف عام الماضية.
مقدار طاقة الاشعة الكونية في الفراغ الكوني تشابه الى حد ما مقدارها في اعماق الفضاء: يبلغ متوسط كثافة طاقة الاشعة الكونية حوالي 1 الكترون فولت لكل سنتيمتر مكعب من الفراغ الكوني اي ما يقارب 1eV/cm3، وهذا يشابه كثافة طاقة النجوم المرئية والتي تبلغ 0.3 eV/cm3، وتبلغ كثافة طاقة المجال المغناطيسي المجري حوالي 0.25 eV/cm3، او كثافة طاقة اشعاع الخلفية الكونية الميكروي 0.25 eV/cm3.
اثار التغيرات في كيمياء الغلاف الجوي
تعمل الاشعة الكونية على تأيين جزئيات النيتروجين والاكسجين في الغلاف الجوي، وهذا يؤدي إلى عدد من التفاعلات الكيميائية. أحد هذه التفاعلات يؤدي إلى استنزاف الاوزون. كما ان الاشعة الكونية مسؤولة ايضا عن التوليد المستمر لعدد من النظائر غير المستقرة في الغلاف الجوي للأرض، مثل الكربون 14 وتعمل الاشعة الكونية على الحفاظ على مستوى الكربون 14 في الغلاف الجوي ثابتا (70 طن) لاكثر من 100,000 سنة مضت، وبقت هذه النسبة ثابتة حتى بداية اجراء الاختبارات الاسلحة النووية على الارض في مطلع الخمسينات من القرن العشرين.
نواتج تفاعل الاشعة الكونية الاولية هي التريتيوم والبريليوم 7 والبريلوم 10 والكربون 14 والصوديوم 22 والماغنيسوم 28 والسليكون 31 والسليكون 32 والفوسفور 32 والكبريت 35 والكبريت 38 والكلور 34 m والكلور 36 والكلور 38 والكلور 39 والارجون 39 والكربوتون 85. تشكل الاشعة الكونية جزء من الاشعة التي يتعرض له الانسان على سطح الارض في العام (13٪ من الخلفية الاشعاعية الكلية) كتلوث اشعاعي على الارض. لكن الخلفية الاشعاعية من الاشعة الكونية تزداد مع الارتفاع عن سطح الارض ليبلغ مقدار التعرض الاشعاعي ربع التعرض الاشعاعي الخلفي الكلي لسكان المدن.
تمتلك الاشعة الكونية طاقة كافية لتغير حالة مكونات الدوائر الالكترونية والدوائر المتكاملة مما تتسبب في اخطاء لحظية مثل تعطيل البيانات في اجهزة الذاكرة الالكترونية او اداء غير صحيح لوحدة المعالجة المركزية. لهذا فان الاشعة الكونية تعتبر مشكلة للاجهزة الالكترونية التي تعمل على ارتفاعات شاهقة عن سطح الارض مثل الاقمار الاصطناعية.
كما انه يشتبه في ان الاشعة الكونية هي السبب المحتمل لحادث الطائرة في العام 2008 حيث تعرضت طائرة الايرباص A330 لسقوط مفاجئ تكرر مرتين بشكل غير مبرر نظرا لخلل في انظمة الملاحة والتحكم فيها. تطلب اصلاح الخلل تطوير برمجيات طائرتي الايرباص A330 وA340 في كل انحاء العالم بحيث يمكن فلترة اية طفرات تحدث في البيانات ومنعها من ان تتسبب في حدوث اضرار للطائرة.
الاشعة الكونية المجرية هي واحدة من اهم التحديات التي تقف في طريق الطائرات والمركبات الفضائية. استخدمت انظمة عزل فيزيائية ومغناطيسية لحماية المركبات الفضائية وتقليل من خطر احداث اي اعطال في الانظمة الالكترونية بسبب الاشعة الكونية.