المغانط أحادية القطب تحدي جديد للبشرية
أ. طارق حسين عبدالودود
رئيس قسم العلوم – متوسطة منارات تبوك
بعد أكثر من 85 سنة من تنبؤ عبقري الرياضيات وعالم الفيزياء البريطاني بول ديراك بوجود المغانط أحادية القطب Magnetic Monopoles بشكلٍ نظري، تمكنت مجموعة بحثية عالمية بقيادة البروفيسور دافيد هال – كلية أمهرست Amherst College – و الباحث الفيزيائي ميكو موتونين – جامعة آلتو في فنلندا Aalto – من التّعرف على مغانط أحادية القطبية و مُشاهدتها، حيث تمّ تَشكِيلُها داخل المختبر ضِمن مَخبر هال في حرم كلية أمهرست Amherst ampus. سيدفع هذا الإنجاز الهام عمليات البحث عن الجسيمات في الطبيعة للتّقدم بشكلٍ أكبر، وهو الأمر الذي قد يُشكّل اكتشافاً ثورياً مُشابِهاً لاكتشاف الإلكترون نفسه. وضّح البروفيسور هال أهمية البحث:” عملية تكوين مغانط أحادية القُطبية صُنعية Synthetic Magnetic Monopoles من المُفترض أن تُزوّدنا بمعلوماتٍ عميقة حول مظاهر و جوانب المغانط أحادية القُطبية الطبيعية، في حال كانت موجودة بالفعل.
يقول المؤلف الأساسي للورقة البحثية “راي” وأول من تمكّن من مُشاهدة المغانط أحادية القُطبية:” هذا اكتشافٌ رائع. أن تكون قادراً على تأكيد عمل أحد أشهر الفيزيائيين عبر التاريخ – أي بول ديراك – هو فُرصة تُتاح لك مرّة واحدة خلال العمر. أنا أشعر بالفخر والشرف كوني شاركت بهذا الجُهد التّعاوني الكبير”. بشكل طبيعي، فإن الأقطاب المغناطيسية تكون على شكل أزواج: فهي تَمتلك قُطباً شَمالياً وقُطباً جَنوبياً، بينما المغناطيس أحادي القطبية عبارة عن جُسيم مغناطيسي يمتلك قُطب مغناطيسي وحيد ومعزول، إما قطب مغناطيسي شمالي أو جنوبي. في عام 1931، نشر العالم بول ديراك ورقة بحثية توضّح طبيعة هذه المغانط أحادية القطبية اعتماداً على الميكانيك الكمومي، وعلى الرغم من التجارب المُكلفة العديدة التي أجريت في ذلك الوقت – كالتجارب على عينات الحجارة القمرية والمعادن القديمة المُتّحجرة – لم يتمكّن أحد من تَسجيل مُشاهدة لِظهُور مغناطيس أحادي القطبية في الطبيعة. قبل أن ينشر ديراك نظريته، لم يتمكن أحد من التوفيق بين مبادئ الكهرومغناطيسية و الميكانيك الكمومي للسماح بوجود المغانط أحادية القطبية – نظرياً على الأقل. ما قام به ديراك هو الأخذ بعين الاعتبار ما يحصل حين يتفاعل مغناطيس أحادي القُطبية مع إلكترون، فقد وجد أنه حين يَعبُر مغناطيس أحادي القُطبية ضمن غَمامِة الكترونية، سَيُخلّف وراءه دوّامة إعصاريّة على كامل مَساره. على الرغم من أن النّظرية وتوصيفها صحيحين، إلا أنه لا يوجد دليل مادي يَدعمُها في الطبيعة. أحد المَشاكل الكبيرة التي رافقت الباحثين في تجاربهم للكشف عن المغانط أحادية القُطبية، أن الحسابات النظرية تشير لامتلاكها كُتلة كبيرة جداً من الصعب الكَشف عنها، حتى ضمن مصادم الهادرونات الكبير LHC في سيرن CERN قام فريق هال البحثي بتبنّي مَنهج عِلمي جديد للبحث في نظرية ديراك، فبدلاً من البحث عن وجود المغانط أحادية القُطبية في الطبيعة، قرر الفريق تشكيلها ضمن ظروف مخبرية، وذلك ضمن حقل مغناطيسي تم تشكيله صُنعياً عبر تكاثف بوز-آينشتاين Bose-Einstein Condensate، والذي يُمثّل حالة شديدة البرودة للذرات الغازية.
اعتمد الفريق على الورقة البحثية التي نشرها “ميكو موتونين” والتي اقترحت تطبيق تغيرات على حقول مغناطيسية خارجية بتتابعٍ مُعيّن، بشكلٍ وكيفية قد تؤدي إلى تشكّيل وتركيب المغانط أحادية القُطبية. بعد ذلك، تم إجراء التجارب ضمن الثلاجة الذرية Atomic Refrigerator التي قام البروفيسور هال وتلاميذه ببنائها. وبعد إصلاح العديد من المشاكل التِقنية، تمكّن الفريق من الحصول على مشاهدات تؤكّد وجود المغانط أحادية القُطبية عند نهاية دوامات كمومية ضئيلة Tiny Quantum Whirlpools ضمن الوسط الغازي فائق البُرودة. النّتائج أثبتت وبشكل تجريبي أن بول ديراك قد تَصوّر بُنى فِيزيائية مُمكن أن توجد فعلياً، و لو أن قضية مشاهدتها بشكل طبيعي لم تتم بعد. يُمكن توضيح التجربة كما يلي: قام الفريق البحثي بإعادة إنتاج الدوّامات الإعصارية التي يُفتَرض تَشكُلّها في حال وجود المغانط أحادية القُطبية، وذلك ضمن وسط غازي فائق البرودة لذرات الروبيديوم، تتبع لتكاثف بوز-آينشتاين. التكاثف عبارة عن مادة موجية مفردة Single Matter Wave، وهو يُمثّل الغمامة الالكترونية المُفترضة في معادلات ديراك.
من أجل تشكيل المغناطيس أحادي القُطبية، قام الباحثون بتطبيق حقل مغناطيسي خارجي حقيقي على التكاثف لتوجيه الذرات المُكَونة له بكيفية سَتُشكّل حَقلاً مغناطيسياً مُكوناً ضمن التكاثف نفسه. الآن سيكون هناك استجابة متبادلة بين هذا الحقل المغناطيسي المركب ضمن التكاثف، والحقل المغناطيسي الناتج عن المغانط أحادية القُطبية. و لإثبات أنهم بالفعل قد حصلوا على مِغناطيس أحادي القُطبية، قام الباحثون بإطلاق شعاع ليزري على التّكاثف، حيث شكّل الشُعاع الليزري “صورة ظليلة Shadowgraph”، و تمت ملاحظة أن هذا الظل الذي تم تشكيله من قبل ذرات التّكاثف، قد تم ثقبه عبر شريطٍ ضوئي ضيّق. استنتج الباحثون أن هذا الشريط الضيّق هو الدوّامة الإعصارية التي تم تشكيلها عبر قطب مغناطيسي شمالي (تم الحصول على قطب شمالي لأسباب تقنية كما ذكر الباحثون)، أحادي ومعزول، وقد وضّح البروفيسور هال أهمية هذه التّجربة بأن الدوامات التي يتم تَشكيلها عادةً ضمن تكاثف بوز-آينشتاين ستنتقل من أحد أطراف التكاثف إلى الآخر، إلا أنها ضمن هذه التّجربة بقيت تماماً ضمن كُتلة التّكاثف و لم تنتقل لطرف التّكاثف الآخر، وهو الأمر الذي يُمثّل العَلامة المُميزة لمِغناطيس أحادي القُطبية. مُشاهدة المغانط أحادية القُطبية التي تم تركيبها هي واحدة من أكثر لحظات سيرته المهنية إثارةً، كما يقول البروفيسور هال، وقد أضاف أن عمليات تكوين حقول كهربائية و مغناطيسية صنعية Synthetic Magnetic and Electric Fields هي أحد الفروع الحديثة والمُتوسعة بشكلٍ كبيرٍ في الفيزياء، والتي قد تقود إلى تطوير و فهم أفضل لمواد جديدة كلياً، مثل المواد فائقة الناقلية (الموصلية الفائقة) ذات الحرارة العالية. أضاف أيضاً أن هذا الإنجاز الهام سَيُوفر تَعزيزاً أقوى للأبحاث الحالية التي تتم من أجل البحث عن المغانط أحادية القُطبية في الطبيعة، والتي أجريت وتطورت في مصادم الهدرونات الكبير LHC في مركز الأبحاث النووية الأوروبي (CERN) تشير النماذج النظرية التي تشرح الفترة الزمنية التي تلت الانفجار العظيم أن المغانط أحادية القطب يجب أن تكون شائعة جداً و متوافرة بشكل كبير، إلا أن النماذج الخاصة المطورة حديثاً حول توسع الكون توضح الندرة الشديدة التي تتميز بها هذه الجسيمات.
أشار البروفيسور هال – الذي تم انتخابه مؤخراً كعضو في الجمعية الأميركية الفيزيائية American Physical Society – إلى أن عملهم التجريبي قد نشأ بعد الملتقى الصيفي البحثي لطلاب كلية آمهرست في عام 2011، و ذلك بعد أن ظهرت الورقة البحثية الخاصة بالبروفيسور موتونين في عام 2009 في دورية Physical Review Lettersتم نشر ورقة بحثية عن هذا العمل المشترك في مجلة Nature يناير 2014.
أ. طارق حسين عبدالودود