لي الشرف أن اعترف بتعلمي التفاؤل من سمرفيلد والفيزياء الحقّة من بور “هايزنبرج” نعم يا سادة العظيم زميل العظيم تحت إشراف ثلاث عظماء.
إنه هايزنبرج زميل باولي وتحت اشراف الأساتذة ماكس بورن وسومرفيلد ونيلز بور!
ما هذه العظمة التي حظي بها هذا العبقري؟
توصل هذا العبقري إلى ألمع فكرة عبقرية حظيت بها ميكانيكا الكم ونظرية الذرة. تلك الفكرة التي اعتبرت فتحاً عظيما في هذين المجالين. هذه الفكرة تعتبر حجر الزاوية في شهرة وحياة هذا الفيزيائي.
إذاً فما الفكرة التي حوّلت مسار كل من هايزنبرج وماذا قدمت لميكانيكا الكم. الفكرة التي قدمها هذا العبقري هي مبدأ الشك!
إذا فما هو مبدأ الشك!
ينص هذا القانون على أنه لا يمكن معرفة موقع جسيم ما وتحديد إزاحته بنفس الدقة المطلوبة في نفس الوقت، أي أن الإمعان في دقة قياس هذا الموقع، لابد وأن يؤثر سلباً على دقة قياس العزم وبالعكس!
ولعلك تعلم بأشهر فكاهة تخص مبدا الشك حيث تصور هذه الفكاهة شرطي مرور يوقف سيارة هايزنبرج ليحرر له مخالفة تجاوز السرعة المقررة على الطريق السريع فيبادر الشرطي بسؤاله هل تعلم مقدار السرعة التي كنت تقود بها سيارتك؟ فيجيب هايزنبرج بدهشة لا!، ولكني أعلم بالضبط أين أقف الآن
آمن العلماء قبل اكتشاف هذا المبدأ إمكانية زيادة دقة قياس أي وحدة فيزيائية بمجرد زيادة كفاءة قياس الآلة التي يقيسون بها وأن اي قصور ما هو إلا قصور قابل للإصلاح، لكن عندما ظهر مبدأ الشك أثبت بما لا يقبل الشك أنه حتى لو استطعنا صنع الة قياس خيالية فإننا سنصطدم بحقيقة استحالة قياس موقع وعزم جسيم في آن واحد وبدقة متناهية!
حيث أن ضرب قيمتي الشك للحدين الموقع والعزم لا بد ان تساوي او تفوق القيمة الحقيقية (وهي نصف ثابت ببلانك المعدل وتساوي تقريبا 10 مرفوعة للاس سالب 35 جول.ثانية).
هذا المبدأ لا يظهر في حياتنا لأننا لا نرى الذرات ولا نحاول قياسها بأعيننا وإنما تظهر في الفئات الذرية ودون الذرية.
مثال لتقريب مبدأ الشك لك عزيزي القارئ..
دعنا نأخذ حبة فاصولياء عادية ونحاول قياسها بمسطرة عادية لربما نحصل على قطر معين وليكن 8 ملم، ولكن لا أشك باتفاقك معي او عدمه بالنظر الى لمحدودية دقة مسطرتك التي استخدمتها، لربما تحصل على قياس أدق باستخدام مسطرة ادق وافضل وليكن 8.5 او 7.5، الآن اذا تصورنا حدود ما يمكننا عمله ضمن تجربة القياس هذه، فسوف تتفق معي على أنه اذا قمنا بالقياس مئة قياس مختلف كل القياسات ستتمحور حول معدل قياسي واحد والقيام برسم مخطط بياني لكافة القراءات خلال هذه المئة قياس، وسنجد حتماً انه يتمحور هذا المخطط حول القيمة الاولى وهي 8، وهذه النتائج وتذبذبها حول قيمة معينة ما هي الا مثال واضح على مبدا الشك في القياس.
استطاع العبقري هايزنبرج وبفضل عبقريته في الرياضيات حصوله على الدكتوراه وفي حصوله قصة غريبة حيث اخذ هذه الدرجة في بحثه التي لم يتجاوز 59 ورقة تحت عنوان (حول الاستقرار والدوران في جريان الموائع).
هذا البحث كان يحلل التحديات التي واجهها العلماء في فهم طبيعة تحول جريانها من الحالة المنتظمة والمسمات الى حالة الدوران رياضيا. ثم بعد ذلك قدم هايزنبرج المع فكرة في مجال الكم ونظرية الذرة.
ربما لم نتمكن من ملاحظة دوران الالكترونات ولا رؤية المدارات اصلا وربما لن نستطيع ذلك للأبد!
لكن العبقرية الفذة لهايزنبرج تفتقت عن فكرة ابتكار الكم من دون الحاجة لرؤيتهما، واعتمد في ذلك على الضوء الممتص والمنبعث من الذرات المعرضة لهذا الضوء !، في عام 1925 قدم هايزنبرج ورقة لاستاذه ماكس بورن تحتوي الحل والاشتقاق النظري لأكبر معضلة في تاريخ الفيزياء آنذاك (تصرف الذرة ودوران الالكترونات).
ميكانيكا المصفوفات
استطاع هايزنبرج بورقته التي نشرها له استاذه بورن من ابتكار طريقة عن فحوى ميكانيكا الكم بادلالة المصفوفات وذلك باعتماد مجموعات احتمالية متكونة من كموم كدية بقيم معينة واستخدام تلك الحدود لإنشاء نوع جديد من الجبر الذي سمي بالجبر غير الكمي والذي لا يعترف بمساواة قيمة (A×B) لقيمة .(B×A)
استمرت ابداعات الرائع من نشر بحث مبتكر بمشاركة استاذه بورن احتوى على التفسير الرياضي لمفهوم ميكانيكا المصفوفات والاحداث التي امكن اكتشافها في تصرف الذرة، فبهذا المفهوم يكتسب كل عنصر من عناصر المصفوفة معنى مقابل لمجموعة من الاحتمالات الممكنة لحالة او لحالات بعينها او فيما بينها .
بعد ذلك تمكن هايزنبرج من استخدام استنباطه (ميكانيكا المصفوفات) في تفسير طيف ذرة الهيليوم ونجح في ذلك نجاحاً باهرا.
هايزنبرج قاهر زميله باولي
لم تأتِ الحلول التي قدمها هايزنبرج (ميكانيكا المصفوفات) الا بالمشقة والحزن على زميله باولي، حيث تطلب ذلك على التنازل عن فكرة المدارات الجاذبة والواضحة حول النواة وأوشك على البكاء وقتها حيث قال واصفاً حزنه.
“لم لا نُشبّه الالكترون بدورانه حول نواة الذرة بالقمر الذي يدور بمدار ثابت حول الأرض، فإذا كانت الطبيعة قد خلقت لكل كرة مدار يمكن لجسم آخر تابع له ان يدور فيها حولها ، فلم جاء هايزنبرج وحرم ذراتنا الجميلة من هذه الميزة وأصر على وجودها لدى كل ما هو قابل للمراقبة وحسب ، ولكن على كل حال فان ما حدث قد حدث وقد اثبت علمياً، لذلك فاني اعتبره اكبر من طاقتي على التحمل وإني لا اتمنى الموت بهذه اللحظة ولا أني سمعت بذلك قط !”.
جمال هايزنبرج
وسوف أختم لكم في هذا المقال عن جمال هذا الفيزيائي الرائع حيث قالت زوجته في كتابها المعروف بالإفصاح عن المكنون.
“في ذات ليلة مقمرة حالمة أخذني زوجي للتمتع بنزهة جميلة على سفوح أحد جبال مدينتنا، لم اتفاجأ ومنذ البداية بتشرب كامل كيانه وفكره بنظرته الوليدة ونظريته الجديدة للمادة والذرة، فلقد كانت ثقته بما توصل اليه عظيماً وايمانه بمستقبلها يشع كهالة براقة لا يمكن تجاهلها من حوله!، قضينا الأمسية بسعادة بالغة، هو يضم يدي بيده وانا اراه يحاول جهده لتفسيرها وتقريبها لذهني مبينا معجزة التناظر في بناء الكون وشارحاً لي دقته وتناغم مكوناته متمنياً من صميم قلبه أن يُمكنني من رؤية جمال البساطة في معمار الوجود بعينيه التي يراه بها، محاولا جهده إشراكي في شرب كأس الحقيقة والانتشاء بها بنفس الروعة التي أدركها بفكره واستوعبها بذهنه الثاقب.
أحببته منذ تلك اللحظة كما لم احبه من قبل وذابت مشاعري في همسات مشاعره، الحق والحق يقال … لقد كانت ليلة من ليالي العمر! لقد كانت ليلة لا تنسى“.