مقالاتمواضيع العدد ٦

هندسة النسج الحية Tissue Engineering

هندسة النسج الحية Tissue Engineering

زراعة الأعضاء.. الهندسة الوراثية.. الاستنساخ.. الخلايا الجذعية، مفردات ومصطلحات لا تدأب تطرق آذاننا وتلمحها أنظارنا في كل محفل أو نشرة علمية، وما كان خيالاً علمياً في الماضي قد أصبح اليوم حالة نعيشها وندرس آثارها علينا ونطرق أبوابها لاكتشاف المزيد من مكامنها، وكل ذلك بفضل خطوة خطاها الإنسان على مدى 15 عاماً متواصلاً من الجهود العالمية الحثيثة لاكتشاف التكوين المفصل للجينوم البشري، إنها الخارطة الجينية لجسم الإنسان التي أعلن الباحثون نجاحهم في اكتشافها عام 2003، وتوالت من بعدها الأبحاث والتطبيقات لتؤكد ما ذكره العلماء البيولوجيون حينها بأنها خطوة تكافئ بقيمتها كل علوم الحياة السابقة لها، وتفوق في أهميتها قفزة الإنسان على سطح القمر.

نعرض اليوم في هذا الموضوع لعلم من أحدث العلوم الهندسية والطبية، إنه علم متكامل وواعد، يحمل في طيات أبحاثه العديد من الطموحات والآمال، وجاء نتيجة حتمية لتطور العلوم الحيوية والطبية واكتشاف الجينوم البشري، والمرافق للتطور الصناعي التقني الذي ميّز حياتنا المعاصرة بمميزاتها الحاسوبية والمعلوماتية.

اعلانات جوجل

أولاً: تعريف بهندسة النسج الحية:

يمكننا تعريف علم هندسة النسج الحية بأنه نقطة التقاء بين علم البيولوجيا الجزيئية والخلوية والكيمياء الحيوية والطب من جهة، وبين علوم هندسة الميكانيك الدقيق والمعلوماتية من جهة أخرى، فهو كأي فرع هندسي طبي آخر، يوظف إمكانيات التقنية الميكانيكية وقدرات الحوسبة الفائقة وحديثاً التقنية النانوية لخدمة الطب وعلم البيولوجيا لبناء أنسجة حيوية في وظيفتها وبنيتها مخبرياً، يمكنها أن تحل مكان النسج الحية في جسم الإنسان (الغضاريف، العظام، العضلات، الأوعية الدموية..وغيرها) والتي تعرضت لإصابة ما أو حالة مرضية معينة أفقدتها وظيفتها في جسم المريض، أو يكون باستطاعتها أن تلعب دوراً دعامياً أو علاجياً لتلك النسج المصابة.

ثانياً: أهداف هندسة النسج وآليات العمل بها:

ظهر علم هندسة النسج الحية تلبية للمتطلبات الصحية للمرضى الذين يحتاجون إلى أعضاء للزرع أو إجراءات جراحية تعوضهم عن نسيج مصاب في الجسم ويصعب علاجه، وهي حالات كثيرة ومتنوعة بتنوع الأنسجة المصابة، وتذكر العديد من الإحصائيات أن آلافاً من المرضى يتوفّون وهم ينتظرون بنوك الأعضاء لتقدّم لهم العضو المطابق لحاجتهم وحالتهم الصحية، فأتت هندسة النسج لتبحث عن الحلول لهذه المشاكل وتنتج أعضاءً وأنسجة حيوية بطرق اصطناعية وبأعداد تغطي احتياجات المرضى.

وبناءً على ذلك، وضعت لهندسة النسج الحية أهداف وآليات محددة تؤطر أبحاثه وتوجهها بمنحيين أساسيين:

  1. إيجاد علاج خلوي إصلاحي للنسج التالفة أو المريضة في الجسم، وحقن التشكيلات الخلوية المحضرة هندسياً إلى داخل الجسم لأداء وظيفتها العلاجية (وهي الآلية المسماة بداخل الحيوية in-vivo).
  2. بناء أنسجة متكاملة خارج الجسم لاستخدامها كزرعات أو أعضاء حيوية مساعدة للأعضاء الداخلية في الجسم على أداء وظيفتها إذا ما كانت تواجه تحديات معينة تمنعها من أداء وظيفتها بالشكل الصحي الأمثل (وهي الآلية المسماة بخارج الحيوية ex-vivo).

الحاسوب والمجهرات فائقة الدقة، أدوات أساسية في هندسة النسج

النمذجة الحاسوبية للنسيج، مرحلة أساسية من مراحل النجاح

ثالثاً: أدوات التقنية ومصادرها:

تعتمد هندسة النسج في قسم كبير منها على دراسة المواد الطبية الحيوية وبحث توافقياتها مع الجسم (كالبوليميرات) وعدم رفضها من قبل الجهاز المناعي كأجسام دخيلة وما يترتب على ذلك من مضاعفات صحية، وهي دراسات مطولة ومعقدة لا يتسع المجال لذكرها، أما من الناحية البيولوجية فنبدأ بعرض التصانيف الأساسية للزرعات الخلوية من وجهة نظر هندسة النسج حسب مصادرها، فهي:

  • زرعات متماثلة الصيغة الوراثية Syngenic: يكون فيها مصدر الخلايا المزروعة والجسم المراد إجراء الزرع فيه متطابقين جينياً ( كما هو الحال عند أخذ الخلايا من نفس الجسم autologous أو جسم التوأم الحقيقي.
  • زرعات متماثلة النوع مختلفة الصيغة الوراثية Allogenic: يكون فيها المصدر والمستقبل من نفس النوع (الجنس البشري) ولكنهما مختلفان من حيث الصيغة الوراثية.
  • زرعات مختلفة النوع والصيغة الوراثية: يكون فيها المصدر والمستقبل من نوعين مختلفين (إنسان وحيوان مثلاً) ومختلفين بالتأكيد في صيغتهما الوراثية.

وتنتج ضرورة هذا التصنيف من فداحة الأعراض التي قد يصاب بها المريض في حال حدوث الزرع دون مراعاة التوافق النوعي أو الوراثي، كاختلاف الزمر الدموية أو عامل الريزوس RH، والتي تؤدي في حال تجاهلها إلى أمراض خطيرة أو الوفاة المباشرة، فتسعى حديثاً مراكز البحث للقضاء على هذه المخاطر وحاجتها إلى التصنيفات، وذلك بالوصول إلى مصادر مانحة شاملة للخلايا تلغي الفروق بين الأصناف المختلفة، وتتمتع بأقل حد من المضاعفات المناعية ( مثال: أن تتمتع بزمرة دموية مانحة بشكل عام O، وعامل الريزوس RH).

ونضيف أخيراً صنفاً من أهم الأصناف الخلوية، ألا وهو: الخلايا الجذعية، وهي خلايا لم تتمايز بعد إلى نوع محدد من الخلايا الوظيفية، وبإمكانها التمايز إلى نوع محدد فقط من الخلايا، أو إلى أي نوع يختاره الباحث، وهي إما جنينية المصدر (وهي أكثر قابلية وشمولية للتمايز)، أو بالغة موجهة التمايز.

البنية المجهرية لقالب تشكيلي scaffold محضر لنسيج عظمي من المواد البوليميرية (من رتبة 100ميكروميتر).

اعلانات جوجل

الخلايا الجذعية Stem Cells، أحد مصادر تقنيات هندسة النسج والأكثر أهمية على الإطلاق.

رابعاً: يتم العمل في هندسة النسج الحية بالخطوات التالية:

  1. الحصول على كتلة محتوية على الخلايا الحية المراد استخدامها لبناء النسيج حسب الحالة ومن المصادر آنفة الذكر، ومن ثم استخلاص الخلايا المطلوبة من الكتلة باستخدام أجهزة النبذ المركزي centrifugationمع النسج السائلة (كالدم)، أو الطرق الميكانيكية مع النسج الصلبة (كتهشيم العظام).
  2. توفير الظروف المخبرية المطابقة للظروف الحية التي تتكاثر فيها الخلايا وتتمايز وظيفياً، كدرجات الحرارة، والضغط، والتي تتم دراستها ونمذجتها عل الحاسب، ومن ثم التحكم بها في المفاعلات الحيوية المؤتمتة automated bioreactorsالتي تتمتع بإمكانيات تقنية تحكمية عالية.
  3. توفير المواد الكيميائية المغذية للخلايا والعوامل المحرضة لها على التكاثر والانقسام والنمو من هرمونات وإنزيمات.
  4. بناء القالب التشكيلي scaffoldالذي ستتوضع فيه الخلايا وتعطي الشكل النهائي للنسيج، وذلك باستخدام النمذجة الحاسوبية وبرمجيات تصميمية اختصاصية ( مثل برمجيات CAD)، ومن ثم التطبيق المخبري بعد الحصول على النتائج اللازمة، ويقابل هذا القالب في النسيج الطبيعي المطرِق خارج الخلوي Extracellular Matrix، والذي يقوم بدور الربط بين خلايا النسيج المتنوعة ونقل الإشارات الخلوية والغذيّات منها وإليها.

يتم جمع المراحل السابقة ضمن أجهزة خاصة هي المفاعلات الحيوية المؤتمتة، وتأخذ فيها الخلايا مواضعها المناسبة وتصطف، وتحصل على غذائها الضروري، وتنمو إلى أن تأخذ الشكل والبارامترات المطلوبة، ومن ثم تزرع في جسم المريض في موضعها المناسب، ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أن أبحاث التقنية النانوية تتوجه اليوم في مراكز أبحاث هندسة النسج لبناء القوالب التشكيلية من الأنابيب الكربونية النانوية CNTs، لما تتمتع به من توافقية حيوية، ومسامية لمرور الغذيّات والعوامل الكيميائية، وقابلية للتحكم بالشكل والأبعاد.

خامساً: إنجازات هندسة النسج الحية:

اعلانات جوجل

يعد علم هندسة النسج علماً حديث العهد لا يتجاوز ال 20 سنة من العمر، ورغم ذلك، تحفل المجلات العلمية اليوم بنتائج أبحاثه المفيدة للبشرية وتم تخصيص مجلات لأبحاثه ونتائجه كمجلة Tissue Engineering، ومن الأمثلة على هذه الإنجازات:

  • إنتاج جهاز دعم حيوي اصطناعي للكبد باستخدام خلايا كبدية حية.
  • البنكرياس الاصطناعي: استخدم الباحثون خلايا جزر لانجرهانز لإنتاج وتنظيم الأنسولين بطرق صناعية وبكميات تجارية لعلاج أمراض السكري.
  • المثانة البولية الاصطناعية: استطاع العلماء في جامعة ويك فوريست Wake Forestالأمريكية إنتاج مثانات بولية مصنعة من نسج حية تطابق المثانة الحية في الشكل والوظيفة، وتم زرعها بدايةً ل20 مريضاً، وأعطت نتائج إيجابية.
  • الغضاريف: تم الوصول إلى نسج غضروفية محضرة اصطناعياً تساعد على علاج أمراض غضروف الركبة.
  • الجلد الاصطناعي: تم استخدام الكولاجين لبناء نسج جلدية تعالج المرضى الذين قد تعرضوا لحروق أو أمراض جلدية خطيرة، أو في عمليات التجميل.

وأخيراً وليس آخراً، تم بناء علاجات متطورة من نسج نخاعية محضرة اصطناعياً من جسم المريض نفسه Autologous، وعولجت بواسطتها أمراض نقيّ العظام التي تؤدي بالمريض إلى فقد القدرة على توليد الدم في جسمه بصورة سليمة، وما يعقبها من مضاعفات قاتلة.

المراحل الأساسية لهندسة النسج:

1. استخلاص الخلايا.

2. تكاثر الخلايا خارج الجسم في بيئة مغذية.

3. وضع الخلايا مع القالب التشكيلي للنسيج وإضافة عوامل النمو والسيتوكينات.

4. وضع النسيج في بيئة مغذية (مستنبت) ومراقبة نموه وتفاعلاته وإجراء الاختبارات عليه.

5. زرعه في جسم المريض.

دراسات مقارنة لفوائد تطبيق التقنية النانوية في هندسة النسج التي انتقل فيها التصميم إلى رتبة الـ 300 نانومتر، والاقتراب من ظروف العمل الطبيعية للنسيج قدر الإمكان باستخدامها.

 

سادساً: التحديات والطموحات المستقبلية:

لم يصل علم هندسة النسج إلى منتهى أحلامه وطموحاته، ونستطيع أن نقول بأنه ما زال في بداية الطريق، وعلى العلم أن يعترف بأنه عاجز في أغلب الأحيان أن يوفر لهندسة النسج تلك الظروف الطبيعية الحقيقية التي تسمح للباحثين بضبط التفاعلات الحيوية، والتحكم بالتوضع الطولي والزاوي للعوامل الحيوية على الخلايا لتحقيق الوظيفة المطلوبة، ومهما كانت التقنية متقدمة وتباهى الإنسان بها، فعليه أن يعترف بأنه لم يستطع حتى هذه اللحظة أن يبني منظومة حية بيديه تطابق الخلية الحية التي يوجد منها البلايين والبلايين في جسم الإنسان ولا تحصى على كوكب الأرض، إلا أنه ينظر اليوم إلى هندسة النسج بعين حالمة طموحة للقضاء على أمراض تتكبد حكومات كحكومة الولايات المتحدة الأمريكية 400 بليون دولار سنوياً لعلاجها، وسيظل يبحث في السنوات والعقود القادمة بين ثنايا نسجه الاصطناعية عما يخفف عناء المرضى، ونفقات الصحة المضنية، ولا ننسى أقلام وأصوات المعارضين للهندسة الحيوية بشتى طرقها وأدواتها، والمنادين بضرورة تدخل أخلاقيات العلم ومؤسساتها في كل بحث ودراسة، وما زال الطريق طويلاً.

 

مراجع ينصح بالرجوع إليها: Tissue Engineering – CRC Press

م./ مازن محمد رشيد صوفي

قسم الهندسة الطبية - جامعة دمشق من فريق عمل الموقع 4electron.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى