اعتمدنا في فهم الكون ودراسته على امواج الاشعة الكهرومغناطيسية بمختلف تردداتها واطيافها وكشفنا الكثير من الغازها من خلال المراصد الفلكية التي ترصد امواج الاشعة الكهرومغناطيسية. الا ان هذه الاشعة تبقى قاصرة لفهم اعمق للكون حيث انها لا يمكن الاعتماد عليها في دراسة الثقوب السوداء. اما امواج الجاذبية فتفتح افاق جديدة لدراسة الكون وكل ما فيه حتى الثقوب السوداء لان لا يوجد شيء يمنع وصول امواج الجاذبية الينا او يمتصها او يؤثر عليها. وباستخدام امواج الجاذبية في رصد الكون يمكن ان نصل لابعد مدى حتى التواصل مع الاكوان الموازية اذا وجدت! ولاهمية هذا الموضوع سوف نتعرف في هذا المقال على تأثير امواج الجاذبية على الفضاء.
تعرف امواج الجاذبية على انها تموج يحدث في نسيج الفضاء والمسؤول عن هذا التموج هو حركة الاجسام الكونية مثل الكواكب والنجوم والنجوم النيتورتونية والثقوب السوداء. عند حدوث تسارع في حركة الاجسام الضخمة تنتشر بسرعة الضوء في الكون موجة تعرف بموجة الجاذبية gravitational wave وهذه هي فرضية اينشيتن في النظرية النسبية العامة.
لنبدأ الموضوع بكلمات العالم البارز جون ويلير John Wheeler في وصفه للنظرية النسبية العامة لاينشتين حيث لخصها بالجملة التالية:
تخبر المادة المكان والزمان كيف يتحدب والمكان والزمان المتحدبان يخبران المادة كيف تتحرك.
مما نعرفه ان اينشتين نشر الشكل النهائي للنظرية النسبية العامة في نوفمبر ١٩١٥ ولكن في العام ١٩١٦ اكتشف ان هناك نتيجة اخرى لم يكن قد تطرق لها لتشوه المكان والزمان:
تسمح النظرية النسبية لامواج الجاذبية بتشوهات متناغمة تنتشر في الفراغ بسرعة الضوء.
لم يكن الفيزيائيون متأكدين من ان امواج الجاذبية موجودة حقيقة ام انها مجرد استنتاجات رياضية في نظرية اينشتين. الا انه منذ الثمانينيات من القرن العشرين وجدت العديد من الشواهد الغير مباشرة على وجود امواج الجاذبية. وحصل العالمان روسيل هيلس Russell A. Hulse وجوزيف تايلور Joseph H. Taylor على جائزة نوبل في العام ١٩٩٣ لاكتشافهم نوع جديد من النجوم النابضة والتي فتحت المجال لامكانيات جديدة لدراسة الجاذبية.
تنبعث امواج الجاذبية من الاجسام التي تتحرك في مدارات دائرية وكذلك من الكتل المتسارعة. والجهود العالمية المبذولة لرصد مباشر لامواج الجاذبية تكللت بالنجاح. ويأمل العلماء استخدام امواج الجاذبية لرصد وتتبع الاحداث الفلكية الهائلة في الكون مثل اندماج الثقوب السوداء والنجوم النيتورونية ورصد انفجارات السوبرنوفا المستعرات الاعظمية.
تماما كما يحدث في مجال علوم الفلك حيث يستخدم الضوء وكل اشكال الامواج الكهرومغناطيسية لمعرفة ما يجري في الكون، فان الامواج الجاذبية سوف تفتح افاق جديدة لمعرفة ما يجري في الكون من خلال المعلومات التي تحتويها امواج الجاذبية.
ما الذي تفعله امواج الجاذبية؟
لنفترض على سبيل التبسيط جسيمات تتحرك في الفضاء بعيدا عن اي مصدر للجاذبية. تخيل الجسيمات باللون الاحمر مرتبة على شكل دائرة مركزها يقع الجسيم باللون الاسود.
اذا مرت موجة جاذبية من خلال الجسيمات في الصورة اعلاه في اتجاه عمودي على المستوى الذي يحوي هذه الجسيمات فان المسافات بين الجسيمات سوف تتغير بتناغم كما في الشكل الموضح ادناه.
لاحظ الفرق في المشهدين حيث انه عندما تتمدد في اتجاه رأسي فانها تنكمش في الاتجاه الافقي، والعكس صحيح. تذكر عزيزي القارئ هذا التأثر عندما نتحدث عن موجة الجاذبية. الان تخيل ان كل جسيم من هذه الجسيمات بحجم الكرة الارضية وانها تدور حول الشمس فان امواج الجاذبية سيكون له تأثير طفيف جدا عليها يقدر باقل من قطر ذرة الهيدروجين.
حركة امواج الجاذبية في الفضاء
توضح صورة المحاكاة اعلاه ما يعرف بمصطلح تذبذبات الجاذبية gravitational oscillation. وحتى نرى كامل الموجة سوف نتعامل مع الموضوع بالابعاد الثلاثة.
نتحدث عن الموجة عندما تنتشر التبذبات في الفراغ. لتوضيح الامر اكثر دعنا عزيزي القارئ نتعامل مع موجة ماء: الان لو قمنا باحداث حركة تذبذبية على سطح الماء نلاحظ تكون مناطق مرتفعة (قمم) واخرى منخفضة (قيعان) بشكل متناغم. ان انتشار هذه التذبذبات في وسط الماء جعلنا نرى حركة القمم على السطح وهذا ما نسميه موجة. تماما عندما تقوم بتحريك حبل بيدك للأعلى وللاسفل سوف تنتشر موجة في الحبل.
انه نفس الشيء يحدث مع امواج الجاذبية. ولتوضيح الامر سوف نستعين بالجسيمات الحمراء المرتبة على شكل دائرة ولكن الان بدلا من التعامل مع دائرة واحدة من الجسيمات سوف نتعامل مع مجموعة من الدوائر مرتبة بجانب بعضها البعض لتشكل سطح اسطواني كما في الشكل ادناه وجميع الجسيمات حرة الحركة.
من الصعب في هذه الصورة ان نرى اي من النقاط تكون في المقدمة وايها في المؤخرة. لتبسيط الامر سنقوم بتوصيل الجسيمات المتجاورة بخط ازرق وكذلك ملء المساحة بين هذه الخطوط لنحصل على شكل اوضح كما هو موضح ادناه. (الخطوط الزرقاء ما هي إلا للتوضيح وليست موجودة في الاصل لان الجسيمات التي ستتأثر بموجة الجاذبية يجب ان تكون حرة الحركة).
عندما تمر موجة الجاذبية بهذه الجسيمات من الجانب الأيمن إلى الجانب الايسر اي من الخلف إلى الامام.
فانه كما نرى سوف تنتشر موجة الجاذبية في الفراغ وينتج عن ذلك تغير في المسافات بين الجسيمات الرأسية داخل كل دائرة مع مرور موجة الجاذبية فيها. تتضح الطبيعة الموجية اكثر اذا نظرنا إلى الشكل الاسطواني من احد جانبيه على النحو الموضح ادناه.
ما عرضناه في الاعلى هو عبارة عن موجة جاذبية ذات استقطاب خطي وهو احد انواع امواج الجاذبية ولكن لو تعرضت الجسيمات لموجة جاذبية ذات استقطاب دائري لحدث تغير في المسافات بين الجسيمات بالشكل الموضح ادناه.
من خلال هذا الشرح وهذه الرسومات التوضيحية نستنتج ان امواج الجاذبية تنتشر مثل تموجات دودة في الفضاء الا ان الديدان الفضائية هي ما يبحث عنه الفلكيون وهي تحمل في طياتها الكثير من المعلومات الكونية التي من المستحيل الحصول عليها باستخدام الامواج الكهرومغناطيسية. اذا هذا هو التأثير الذي يحاول العلماء رصده منذ ١٠٠ سنة. وتبلغ صعوبة رصد امواج الجاذبية في كونها ضعيفة جدا وتحدث اثر ضعيف بحيث لا يتعدى تغير قطر الكرة الارضية سواء باتمدد او الانكماش عند تعرضه لموجة جاذبية لمسافة اكثر من قطر ذرة الهيدروجين.
يكون لامواج الجاذبية اقصى تأثير عندما تكون ناتجة عن اجرام فلكية هائلة مثل حركة نجوم نيتورنية متسارعة او اندماج ثقبين اسودين فيحدث عنهما موجة جاذبية تنتشر في الفضاء وهذا ما حدث منذ 1.4 مليار عام وقد وصلت موجة الجاذبية لأرض والتي تم رصدها بوساطة مرصد ليجو LIGO مؤخرا ليكون بذلك اثبات عملي على فرضية اينشيتن في النظرية النسبية العامة وفتح افاق جديدة لفهم اعمق للكون وربما اكتشاف الاكوان الموازية والتخاطب معها!
مزيد من المقالات عن موجة الجاذبية
كيف تم قياس امواج الجاذبية بواسطة مرصد الليجو LIGO
