نعيش في هذا الكون ونمضي في حياتنا اليومية محاطين بعجائب الكون وظروفه واحواله المسخرة لنا في كل لحظة. ومن بين هذه العجائب القوى الأربع الأساسية التي تؤثر في كل ذرة من ذرات الكون بما فيها اجسامنا لا نشعر بها بشكل مباشر بالرغم من ان أهمية هذه القوى الأربعة لا تقل عن أهمية الهواء والماء بالنسبة لنا. هذه القوى الأربع هي السبب الرئيسي وراء وجودنا وبقاء الكون بصورته الحالية، ولو انعدمت إحداها لفني هذا الكون في لحظات. اذا في البداية القوى الاربعة هي:
(١) القوة النووية الكبرى The strong nuclear force: وهي القوة المسؤولة عن تماسك نواة الذرة ومكوناتها من البروتونات والنيوترونات مع بعضها البعض.
(٢) القوة الكهرومغناطيسية The electromagnetic force: وهي القوة المسؤولة عن تجاذب وتنافر الشحنات الكهربائية، وهي التي تربط الذرات مع بعضها البعض لتشكل الجزئيات وهي التي تولد التيار الكهربي والكثير من الظواهر الفيزيائية المتعددة.
(٣) القوة النووية الصغرى The weak nuclear force: وهي القوة المسؤولة عن بعض انواع الاضمحلال الاشعاعي وتحول الانوية الثقيلة والجسيمات الغير مستقرة إلى جسيمات اخف.
(٤) قوة الجاذبية The gravity force: وهي القوة التي تربط الارض والنظام الشمسي والنجوم والمجرات مع بعضها البعض.
القوة الاساسية الأربع في الكون
ان الاجابة على ما هي اقوى قوة في الكون يعتمد على كيف ننظر لكل منها، فكل قوة لها مقياسها وظروفها التي تجعلها تطغى على القوى الاخرى.
ذرة هيليوم مع نواتها
بالانتقال إلى اصغر مقياس والذي يتراوح في حدود 10-16 متر او مقياس يصغر عن الذرة بمقدار مليون مرة فان القوة النووية الكبرى تتغلب على كل القوى الاخرى. لنأخذ نواة الهيليوم على سبيل المثال والتي تتكون من بروتونين ونيوترونين مترابطين مع بعضهما البعض في ترتيب مستقر. حتى مع وجود قوة التنافر بين البروتونين، فهي قوة لا تكفي للتغلب على قوة تماسكهما في النواة. حتى لو انتزعنا نيوترون لنترك النواة ببروتونين ونيوترون واحد فقط، فانه يكون لدينا نظير الهيليوم وهو مستقر ايضا. القوة النووية الكبرى على مسافات صغيرة جدا تتغلب على كل القوى الاخرى، وبالتالي في الكثير من الظروف يمكن ان نعتبرها القوة الأقوى.
لكن لو كانت نواة الذرة كبيرة جدا لكانت القوة الكهرومغناطيسية هي القوة الاقوى. لنأخذ نواة اليورانيوم 238 على سبيل المثال، التي تحرر نواة ذرة هيليوم بين الحين والاخر، نتيجة لقوة التنافر بين مكونات نواة اليورانيوم 238 التي تعتبر نواة كبيرة جدا مما يصعب على القوة النووية الكبرى ان تحافظ على تماسك مكوناتها. على المقياس الكوني الكبير فان المجال المغناطيسي القوي الناتج عن انهيار النجوم ودوران الاجسام بسرعة وكذلك عن الاجسام المشحونة التي تعمل على تسارع الجسيمات إلى طاقات كبيرة في الكون مثل الاشعة الكونية التي تحيط بنا من كل اتجاه. وعلى خلاف القوة النووية الكبرى لا يوجد هناك حدود لمدى القوة الكهرومغناطيسية فالمجال الكهربي للبروتون يمكن ان يكون له تأثير على مسافات شاسعة جدا.
مخطط توضيحي لاضمحلال بيتا من نواة ذرة كبيرة
قد تبدو القوة النووية الصغرى اقل مرشح ليكون اقوى قوة في الكون، وقد يكون هذا استنتاجا من اسمها، الا انها قد يكون لها في بعض الاحيان تفوق على القوى الاخرى. في ظل ظروف مناسبة قد يحدث ان تلغي القوة الكهرومغناطيسية القوة النووية الكبرى ويتلاشيان مع بعضهما البعض، مما يسمح للقوة النووية الصغرى ان تفرض سيطرتها في هذه الحالة. وعندما تسنح هذه الظروف فانها تسبب اختلافات كبيرة لاستقرار اي نظام كما يحدث في حالة اضمحلال اشعة بيتا. في هذا الاضمحلال يتحول نيوترون إلى بروتون والكترون والكترون مضاد وهو النيوترينو neutrino.
لكن على مقياس كبير جدا كالمجرات والنجوم فان اي من القوى السابقة يكون لها تأثير يذكر. حتى القوة الكهرومغناطيسية التي تنتشر عبر الكون لا يكون لها تأثير يذكر لان عدد الشحنات الموجبة يساوي عدد الشحنات السالبة. وهنا لا يتبقى الا قوة الجاذبية لتكون هي القوة المسيطرة في على المقياس الكوني. فحتى الاندماج النووي وضغط الاشعاع الناتج عنه لا يمكن ان يبعد النجوم عن بعضها البعض لان قوة الجاذبية بينها تتغلب على اي قوى اخرى.
مجموعات المجرات والتراكيب الكونية الكبرى التي تنتشر على مدى يصل إلى مليارات السنين الضوئية عبر الكون. وبعدما تاكد الفلكيون من مشاهدة تمدد الكون بواسطة قياس الانزياح الأحمر لأطياف المجرات، قاموا وما زالوا يقومون بإجراء قياسات تفصيلية لغرض تعيين سرعة تمدد الكون ومدى تغيرها عبر الزمن منذ نشاة الكون. وقد اظهرت تلك القياسات حتى الآن عكس ما توقعه الفلكيون من انخفاض سرعة تمدد الكون مع الزمن، بل تدل القياسات على زيادة سرعة التمدد. ومنذ هذا الاكتشاف يرجع العلماء زيادة سرعة تمدد الكون إلى وجود طاقة مظلمة dark energy غير معروفة، وتسمى بالطاقة المظلمة لأنها ليست من اشكال الطاقة المعهودة لنا.
على مقياس كبير جدا فان مقدار الطاقة المظلمة تقدر بجول واحد من الطاقة لكل كيلومتر مكعب من الفراغ وهي بالرغم من صغرها الا انها تتغلب على قوة الجاذبية بين المجرات الهائلة والنجوم في الكون. ونتيجة لتغلب الطاقة المظلمة على قوة الجاذبية نجد ان الكون في حالة تمدد متسارع وان المجرات والنجوم تتباعد عن بعضها البعض بمعدلات متزايدة مع مرور الزمن. على المقياس الكوني الكبير حتى الجاذبية تتراجع.
وفي الختام ما هي القوة الاقوى؟ على المقياس الصغير تكون القوة النووية الكبرى. للتراكيب الكونية الكبرى فان الجاذبية هي القوة الاقوى. وعلى مقياس اكبر من ذلك تصبح الطاقة المظلمة هي الاقوى. اذا نظرنا على القيمة المطلقة للطاقة المظلمة نجد انها هي الاضعف ولهذا السبب تأخر اكتشاف تأثيرها. لكن الكون كبير جدا واذا قمنا بتجميع كامل حجم الفراغ فان الطاقة المظلمة سوف تكون هي القوة الوحيدة التي تهمنا في نهاية الامر.
