سلسلة أعظم 100 اكتشاف علمي في التاريخ .. الخارطة الجينية للإنسان (الجينوم البشري)
سنة الاكتشاف 2003
ماذا نعني بالخارطة الجينية؟إنها تفصيل دقيق لتتابع القواعد المشكلة للحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين DNA لخلية الإنسان، والذي يحمل المعلومات الوراثية المحددة لجميع صفات الجنس البشري وانتقالاتها عبر الأجيال.
من هو المكتشف؟ جيمس واتسون James Watson وكريغ فينتر Craig Venter.
العالم جيمس واتسون العالم كريغ فينتر
لماذا يعد من أعظم 100 اكتشاف علمي في التاريخ؟
لقد كان هذا الإنجاز باكورة الإنجازات العلمية للإنسان في بداية القرن الحادي والعشرين، وهو على مختلف المقاييس ثورة علمية بكل ما تحتمل الكلمة من معنى، فشريط الدنا DNA ما هو إلا البصمة المحددة لكل البنى والعمليات وعوامل الاستمرار في الوظائف الحيوية في جسم الكائن الحي، فهو يوجه منذ لحظة الحياة الأولى كامل التحولات من البيضة الملقحة إلى الإنسان الكامل الذي تراه عندما تقف أمام المرآة، وإن عناصره البليونية (3 بلايين قاعدة) قد رتبت بإعجاز إلهي بشكل أذهل العلماء وجعل فك شيفرته أمراً مستحيلاً على المقياس الزمني، فأتى فك الشيفرة تحطيماً لنظرية الاستحالة، وأوجد للعلماء مفتاحاً لفهم خفايا عملية التطور البيولوجي في الإنسان، بل فهم أسرار نمو الحياة وتطورها كلها.
إنه اليوم يساهم في علاج العديد من الأمراض الوراثية وفهم مسببات أمراض أخرى من نقطة نشأتها في الجينات، وهي تعِد الإنسانية بالكثير من الاكتشافات على الصعيد التشريحي والفيزيولوجي الطبي، وستساعد العلماء على فهم التشابهات والعلاقات المشتركة للجنس البشري مع ما يحيط به من كائنات حية أخرى.
كيف تم اكتشاف الخارطة الجينية؟
لقد وُضِع أول مبادئ علم الوراثة على يد الراهب النمساوي غريغور مندل Gregor Mendel عام 1865، فانطلق بعد ذلك هذا العلم كحقل مستقل بذاته في علوم البيولوجيا، وفي عام 1953، اكتشف فرانسيز كريك Francis Crick وجيمس واتسون James Watson شريط الدنا وحددوا أهم مواصفاته الشكلية والبنيوية، ذلك الشريط الذي يحمل جميع التعليمات الوراثية، ولكن، بدت العقبة التالية لهذا الاكتشاف: كيف سيتم تحديد مكونات هذا الشريط بالتفصيل؟ أي، كيف يمكن للعلماء كشف هوية 3 بلايين جزيء يشكل بنية هذا الشريط؟ (من الجدير بالذكر، أن المراد اكتشافه هو التتابع للقواعد الأربعة التي تدخل في بنية الشريط وتحدد تمايز أوامره الوراثية: الأدنينA ، الثيمينT، الغوانين G، السيتوزين C)، فبدت هذه الخطوة للمكتشفين أنها بحاجة لفترة زمنية وجهود تفوق 20 ألف ضعف الجهود التي تبذل لتحقيق أي مشروع بيولوجي آنذاك… أو، أمراً شبه مستحيل.
كان تشارلز دي ليزيCharles de Lisi في قسم الطاقة الأمريكي D.O.E أول جهة ممولة لمشروع اكتشاف البنية التفصيلية لشريط الدنا عام 1987 وتحقيق هذا الإنجاز الحضاري، وانضم القسم عام 1990 إلى المعاهد الوطنية للصحة NIH لبناء منظمة جديدة تحمل على عاتقها إنجاز المشروع، وأسميت بـ (المجموعة الدولية لمشروع الكشف عن التتابع في الخارطة الجينية International Human Genome Sequencing Consortium – IHGSC)، وأوكلت رئاسة المجموعة والمشروع إلى جيمس واتسون (كصاحب الشهرة في اكتشافه الدنا) وحددت له مهلة 15 عاماً لإنجاز المشروع.
اعتقد العلماء بدايةً أن شريط الدنا يحتوي على 100 ألف جين متراصين خطياً على طول 23 كروموسوم (أو صبغي)، وكانت مهمة واتسون أن يعرّف ويفسّر ويكشف هذا التتابع في كل صبغي، ويعرف القاعدة التي تحتل كل موقع من بين الـ 3 بلايين موقعاً ( أهي ثيمين، أدينين، سيتوزين، أم غوانين؟)، ومن الناحية التقنية والقدرات المتوفرة آنذاك فقد كان بالمقدور معرفة تتابع القواعد في الجينات، ولكن، وبالرجوع إلى مقياس الزمن فإننا سنجد تلك التقنيات تستغرق آلاف السنين لتحقيق المشروع والكشف عن ال 3 بلايين قاعدة، فاقترح واتسون إستراتيجية الانتقال من الخرائط العامة لكل كروموسوم ومحاولة الكشف الجزئي عن تتابع القواعد لبعض الكائنات ومن ثم ربطها بطريقة توضيحية معينة لتحقيق أول خطوة من المشروع، وهو ما وجه الفريق إليه، وتم إنجازه عام 1994.
بعد هذه المرحلة، وجّه واتسون فريقه في المجموعة الدولية لتحديد أبسط أشكال الحياة على الأرض وعلاقاتها فيما بينها لتبسيط المهمة ومعرفة رؤوس الخيط التي ستتكامل مع الافتراضات التي قدمتها النماذج والخرائط العامة للكروموسومات، فبدأ الفريق بالدراسة لذبابة الفواكه والشرشية الكولية e.coli، فطر الخميرة، وبعض كائنات المحيطات الدقيقة، وفي أواسط التسعينات، بنيت الخرائط الجينية المبسطة لأغلب هذه الكائنات.
على الرغم من استمرار المجموعة في اتباع إستراتيجية ومقاربة واتسون، إلا أنها لم تنل رضا جميع العلماء فيها، فقد آمن العالم كريغ فينتر Craig Venter بأنه على الفريق أن يحاول فك التتابع لأكبر قد ممكن من أجزاء الشريط، ومن ثم ربطها لاحقاً لتشكيل البنية الكلية للخريطة، بدلاً من إضاعة السنين في الانتقال من الصورة العامة البسيطة التي يضعها واتسون إلى أدق التفاصيل فيها وتحديد التتابعات.
لقد اندلعت حروب كلامية حادة في مقالات الصحف واجتماعات تمويل المشروع بين أنصار كل من المقاربتين: مقاربة الانتقال من العام إلى الخاص (مقاربة التقسيم top-down التي يحمل رايتها واتسون) ومقاربة الانتقال من الأجزاء إلى الكل (مقاربة التجميع bottom-up التي يحمل رايتها فينتر)، وبناءً على ذلك، ترك فينتر منصبه الحكومي كباحث في معاهد الصحة الأمريكية، وشكّل شركته الخاصة التي عهد إليها بالكشف عن أكبر قدر من التتابعات انطلاقاً من الكروموسومات في الخلية البشرية، مستكملاً ما استفاد منه أثناء عمله في المجموعة الدولية، وفاجأ فينتر العالم عام 1998 بقدرته على استخدام الحواسيب الفائقة لإنهاء وإنجاز مشروع الجينوم البشري بفترة أقصاها نهاية عام 2002، أي قبل 3 أعوام من نهاية المدة المحددة للمجموعة الدولية.
تدخل الرئيس كلينتون عام 2000 لإنهاء الحرب المندلعة بين الفريقين، ووحّد الجهود لتحقيق مشروع الجينوم البشري، وأصدر الفريق المتحد تقريره الأول عام 2003 المفصل لتتابع جميع القواعد في الجينوم البشري، وإذا ما أريد طبع هذا التتابع على ورق فإنه سيملأ 150 ألف صفحة مطبوعة، أي ما يعادل 500 كتاب كل منها مؤلف من 300 صفحة.
كنتائج للمشروع، توصل العلماء إلى أن الجنس البشري يمتلك من 25 ألفاً إلى 28 ألف جين فقط (من أصل ال 100 ألف التي اعتقد بها سابقاً)، أما التتابع فهو مختلف بنسبة ضئيلة جداً عن التتابع في الكثير من أنواع الكائنات الحية الأخرى.
على الرغم من أن عمر هذا الإنجاز لا يتجاوز 5 سنوات، إلا أنه ساعد على تقدم علم الطب وأبحاثه بشكل أسي منقطع النظير، وقد استطاعت مراكز البحث بفضل الله وبفضل هذا الإنجاز أن تجد العلاجات وتحدد الأسباب للعشرات من الأمراض الوراثية وإصابات مرحلة الطفولة التي كانت غامضة لفترة طويلة على العلماء، وسنشهد في السنوات ال 50 القادمة اكتشافات أعظم وأعظم بفضل هذا الاكتشاف.
لماذا نتحدث عن هذا الاكتشاف في الموقع؟ اعتمد فينتر في إنجاز المشروع على الحواسيب الفائقة التي خصصت لغرض الكشف عن التتابع، ويوجد علم برمجي قائم بذاته لكتابة خوارزميات الكشف عن التتابعات وبرمجتها والمسمى المعلوماتية الحيوية Bioinformatics، ويمكن لأي واحد منا أن يطلع على المراجع ويقرأ ويفهم الأسرار الكامنة وراء نجاح المشروع، كما يمكن لأي منا أن يختص في هذا المجال ويكون رائداً فيه، فهو ليس حكراً على الأطباء وعلماء الحياة فقط، بل كان للمهندسين دور أساسي في نجاح وتحقيق المشروع.