مقالاتمقالات في الفيزياءمواضيع العدد ٢٣

وحوش الكون تنصف عازف الكمان

عادت أيام نوبل مرة أخرى، التي تطل علينا في أوائل شهر أكتوبر من كل عام، لكن هذه المرة جاءت في ظروف استثنائية إن صح التعبير، فبينما العالم بأسره منشغل بالوباء العالمي (كوفيد 19)، تطل علينا الجمعية الملكية السويدية لتعلن أسماء الفائزين في جوائز نوبل لعام 2020، ونخص بالذكر في مقالنا هذا الجائزة الأعظم لكل فيزيائي .. لتأتي هذه المرة لتنصف العجوز البريطاني روجر بنروز على حياته العلمية الطويلة في خدمة الفيزياء والنسبية.

لو كان اينشتاين حياً بيننا، لكان فخوراً جداً بأن الحياة تنصفه عام بعد عام .. الألفية الثانية ذكرت العالم بعازف الكمان البرت، وكأنها تقول لنا ما رأيكم أن يكون اينشتاين هو رجل القرن مرة أخرى!، فالبداية كانت بأمواج الجاذبية ثم الثقوب السوداء ثم الثقوب السوداء مرة أخرى.

وشهد هذا العام الاستثنائي تتويج رابع امرأة بجائزة نوبل ألا وهي أندريا جيز مناصفةً مع رينهارد جينتزل لاكتشافهم جرم ضخم في مركز مجرتنا يعتقد أنه ثقب أسود ضخم .. لذلك دعونا نعود بالزمن لعازف الكمان ونتتبع أحداث السيمفونية العظيمة النسبية العامة وصولاً للحن وحوش الكون.

اعلانات جوجل

البداية .. الكون ينادي

في يوم من الأيام جاء أحدهم، وقال يا إسحاق ما هي الجاذبية ؟ .. سكت إسحاق لبعض اللحظات وقال أنا لا أعرف .. إنه إسحاق نيوتن وسؤال الجاذبية الذي حيره حتى موته.

هذا السؤال الذي يبدو من الوهلة الأولى أنه بسيط، ويصلح أن يضع في ورقة امتحان العلوم للمرحلة الابتدائية، يحمل في طياته عالم لم يكتشف بعد!، والأغرب من ذلك أنه صمد لمدة 3 قرون بدون أي إجابة، حتى جاء اينشتاين وقدم الإجابة لنا على طبق من ذهب على شكل سيمفونية اسماها النسبية العامة، والتي وضحت معنى الجاذبية وفسرت الكثير من الظواهر الكونية أهمها حيود مدار كوكب عطارد والثقوب السوداء وغيرها.

لكن جاء عازف الكمان ليعزف السيمفونية (النسبية العامة) ولم يجد أحد يسمعها، ماذا ؟؟، رفض المجتمع العلمي النظرية النسبية العامة لأنه بالكاد يصدق النسبية الخاصة، ومرت بضع سنوات قليلة حتى ينصف القدر اينشتاين عن طريق العالم البريطاني إدغنتون.

وحوش الكون تنصف عازف الكمان

اعلانات جوجل

قام العالم البريطاني إدغنتون برحلة إلى جنوب أفريقيا لرصد كسوف الشمس ودراسة سلوك الضوء حسب النظرية النسبية العامة، فحسب النظرية أن الجاذبية تؤثر على سلوك الضوء الصادر من النجوم، وبعد عدة صور أخدها إدغنتون لاحظ انحراف في أشعة الضوء الصادرة لعدة نجوم .. وكانت هذه الشرارة الأولى في سلسلة لإثبات النسبية.

التجربة التي قام بها إدغنتون كالتالي : النظرية النسبية تنبأت بأن مرور الضوء بجانب الشمس سيؤذي إلى تغيير أماكن النجوم المحيطة بالشمس، ويمكن قياس ذلك أثناء الكسوف الكلي .. إدغنتون قام بتصوير تلك النجوم في الكسوف، وبعد الكسوف بعدة أشهر فوجد الفرق في أماكن تلك النجوم.

وبعد هذه التجربة ذاع صيت اينشتاين في كل صوب وحدب، وزار إدغنتون نفسه في كامبريدج، فإدغنتون آمن باينشتاين ونظريته ونال شرف أنه أول من أثبت صحة النظرية النسبية العامة.

بعد عشر سنوات من وفاة اينشتاين، التاريخ أعاد نفسه مرة أخرى، وبريطاني آخر اسمه روجر بنروز قام بإثبات رياضياً أن الثقوب السوداء نتيجة مباشرة للنظرية النسبية العامة لاينشتاين .. أو بمعنى آخر أن تنبؤات النظرية النسبية تقودنا إلى تكوين الثقوب السوداء، وبذلك تكون هذه الورقة البحثية هي أهم إضافة للنسبية العامة من بعد اينشتاين.

أما ماهية وحوش الكون .. هي انهيار أحد النجوم الكبيرة فيحدث انحناء كبير في النسيج الكوني الذي اقترحه عازف الكمان في النسبية العامة، وهذا الانحناء كالوحش الضاري الذي ينتظر مرور فريسته للانقضاض عليها، فجاذبيته فائقة لدرجة أن الضوء لا يهرب منها، أما ماذا يوجد في داخل الثقب فلا أحد يعلم شيء سوا أن كل قوانين الفيزياء تنهار داخله.

اعلانات جوجل

نوبل تنصف عازف الكمان

الألفية الثانية كانت خيراً على مناصرين النسبية واينشتاين .. بدايتها كانت من مرصد اللوغو الذي استطاع سماع صوت الكون لأول مرة منذ تنبؤ اينشتاين قبل قرن من الزمان، فاينتشاين تنبأ أن تكون هناك موجات تنقل عبر نسيج الزمكان، لنجوم انهارت أو اندمجت أو أي حدث يحدث في الكون .. نتيجة لذلك يحدث اهتزاز في نسيج الزمكان وينتقل عبر النسيج.

مثال توضحي بسيط .. أمامك بركة ماء وقمت برمي حجر داخل البركة، سوف ترى التأثير الذي أحدثه الحجر على الاستقرار العام للماء، فسترى انتقال موجات عبر الماء، وفي الكون نفس الفكرة لكن رصد هذه الموجات صعب للغاية بسبب صغرها، حتى اينشتاين نفسه قال أنه لا يتوقع أن الجنس البشري يصل لمرحلة أن يرصد تلك الأمواج.

ولكن بعد مرور 8 سنوات منذ استعداد مرصد اللوغو لرصد تلك الأمواج .. جاءت الموجة أخيراً، وبعدها بعدة أشهر رصدت موجة أخرى، وكانت هذه البداية لحقبة جديدة في الفيزياء وللنظرية النسبية بشكل خاص، فما كان للجمعية الملكية إلا منح جائزة نوبل لثلاثة علماء كيب ثورن، باري باريش، راينر فايس لجهودهم في رصد أمواج الجاذبية.

وحوش الكون تنصف عازف الكمان

اعلانات جوجل

ولي وقفة مع العالم كيب ثورن .. هذا الرجل أفنى 40 عاماً من حياته مؤمناً بالنظرية النسبية ودراسة الأمواج الثقالية (أمواج الجاذبية) حتى أنصفه القدر، ولا أحد ينسى ذلك اليوم الذي أنهار فيه بالبكاء عند رؤيته لصورة اينشتاين، فقد آمن وعمل واجتهد وحصد بعد 40 عام من البحث.

وبعد هذا النداء من الكون، جاءت المفاجأة الكبرى رصد وتصوير أول ثقب أسود في التاريخ الإنساني، وكانت الصورة كما تنبأت النسبية تماماً، وبذلك أثبت القدر أن عازف الكمان على حق من ناحية الثقوب السوداء، فتصوره لشكلها كان مطابقاً للصورة الملتقطة بواسطة تلسكوبات الردايو المنتشرة حول العالم، والتي عملت كأنها تلسكوب راديوي واحد بحجم الأرض الذي تمكن من خلاله العلماء تصوير وحش الكون الفتاك.

أما الجمعية الملكية عادت مرة أخرى لتكرم روجر بنروز على الورقة البحثية التي دعمت النظرية النسبية لاينشتاين، وحصد روجر العجوز الذي أشتعل رأسه شيباً جائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام.

وفي النهاية .. نوبل مرة أخرى

ولا يمكنني الانتهاء من حديثي عن اينشتاين، والنسبية العامة، وجائزة نوبل .. دون ذكر المرأة الرابعة التي تحصد نوبل في الفيزياء (أندريا جيز) بالشراكة مع رينهارد جينتزل، على اكتشافهم جرم فائق الكثافة يتحكم في مدارات النجوم في مركز مجرتنا يعتقد أنه ثقب أسود، فالنجوم القريبة منه في مركز المجرة تندفع بسرعة هائلة حسب العالمين.

وحوش الكون تنصف عازف الكمان

إذاً جائزة نوبل في الفيزياء لهذا العام حصدها هذا الثلاثي، نصفها ذهبت لإنصاف اينشاين وروجر .. والنصف الآخر ذهب للجرم المكتشف في مركز مجرتنا، ولا يسعني إلا القول بأن من آمن بأفكاره وقدراته سيصل مهما كلف الأمر من سنين وشعر أبيض، ولكم في العلماء الذين ذكرتهم العبرة والموعظة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى